بقلم حكم غانم
وهو يعتبر التجربة الأولى المنفردة للمخرجة مي المصري وهو رؤية تسجيلية ذاتية لما شاهدته عين الخرجة من خلال الكاميرا لدى عودتها إلى مدينتها نابلس (جبل النار) في العام الثالث للإنتفاضة الأولى ضد الكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين.
استطاعت مي من خلال كاميرا البريطاني اندي جيلينغر أن تسجل صورا حية يومية لفعاليات الإنتفاضة في أحد أحياء مدينة نابلس الذي اعتمدت خلاله على الأسلوب الربورتاج التسجيلي في نقل الفعاليات وظهر ذلك بتصوير ونقل أحداث استلام جثمان أحد الشهداء .. وتنقل مي الصور لنا تباعا دون رتوش أو تجميل أو تزييف في بيت أهل الشهيد حيث هنا المعاناة ومرارة الفقد لدى أهل الشهيد رغم الإيمان أنهم أحياء عند ربهم يرزقون فهو شهيد في المعتقد وفخرٌ وطنيٌ للعائلة إلا أنه في النهاية موت وانتهاء حياة في الدنيا وهناك أحياء له من أخوة وأصدقاء وأم وأب سيفتقدونه كثيرا بطبيعة الحال ولكن في سبيل الله الوطن والحرية لا مانع لدى الشعب الفلسطيني من التضحية..
ب(50) دقيقة تنقلنا مي من هذا المكان الذي يكثر فيه الكلام المنمق إلى الحقيقية المؤلمة والواقع إلى الموت والتنكيل والقمع والإرهاب الذي يمارسه الكيان الصهيوني الاستيطاني يقابله التضحية والفداء التي يقدمها الأهل والأحباب والأصدقاء في الحي..
هذا كله تقدمه لنا مي المصري رغم عبر نافذة منزلٍ مطلٍ على الشارع التي تسير خلاله الجنازة .. وهذا ليس بسبب اختيار فني من مي وإنما لإن المنطقة خاضعة لأمر الحكم العسكري الصهيونية المحتل والتي كانت تفرض منع تجوال مما تسبب في عجز المخرجة من الخروج إلى الشارع والحارات فلجئت لهذا الحل الفني التي عبرت من خلاله على طقوس تشيع جنازة شهيد..
مشاهد كثيرة ترينا إياها المصري ، فمن تصويرها روح التعاون بين جماهير الشعب الفلسطيني إلى الاحتفال في تشييع جثمان الشهيد رغم أن الدفن تم في منتصف الليل إلا أن سكان الحي والأحياء المجاورة شاركوا في ذلك وفي مشهد آخر تصور لنا المخرجة مجموعة من الأطفال تلعب لعبة الإنتفاضة حيث يقومون بتقسيم أنفسهم إلى فريقين أحدهم يمثل جيش الاحتلال والأخر يمثل دوره في رجم الجارة على جنود الاحتلال.. بهذا المشهد ترصد وتسجل لنا المخرجة المصري التغيرات السايكولوجية التي طرأت على حياة الأطفال قي ظل الإنتفاضة فهي (الإنتفاضة) أصبحت ألعابهم وقد أصبحوا يحلمون بالحجارة بدل أن يحلموا كالأطفال الآخرين فهم في عقل الباطن وتفكيرهم يتعلمون كيف الرجم والكر والفر مع العدو الصهيوني.. وهذا بدوره يؤدي إلى الإنحراف وتشوه في سلوك الأطفال وهذا ما تحاول أن تقوله المخرجة مي المصري يعني بمعنى أصح والنتيجة أن هؤلاء الأطفال أيضا ضحايا تبدو جانبية ولكن في المستقبل ستكون مشكلة كبيرة.. يصعب حلها وهذا ما أكد عليه عديد المخرجين الفلسطينيين مثل المخرج الفلسطيني في فيلم “نشيد الحجر” ..
الاحتلال بجبروته فرض على الفلسطيني بشكل عام أن يكون واعيا لحالته وعلاقته مع الصهيوني الغاصب للأرض الفلسطينية وهذا بالنتيجة على وعي أطفال فلسطين وهذا ما أكدته مي المصري فنيا في الفيلم من خلال المونتاج المتوازي بين الطفلين “هناء وفادي” نرى الوعي الذي يتمتعان به هذان الطفلان كبيرا ولا يتوافق مع عمرهما وهذا الوعي لا يأتي ولا يندرج تحت مفهوم الوعي الطبيعي لإطفال بأعمار من ظهروا في الفيلم، فالإنتفاضة فرضت نفسها عليهم بحلمهم وفي ألعابه وغذائهم .. كذلك هي الهواء الذي يتنفسونه فهي إذن ليست حجارة فقط.. هي تمرد آخر يضيفونه إلى مجموع تمرداتهم وغضبهم على الكيان الصهيوني كذلك هي الوطن والحرية..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نشرت في صحيفة الدستور الأردنية بتاريخ 11 ديسمبر 1990م
Leave a reply
You must be logged in to post a comment.